بحث عن اللغة والمجتمع في برنامج (اللغة والهوية)
مقدم من الباحثة : د. حنان أبو زيد
إلى الدكتور بوجمعة وعلي رئيس قسم الدراسات والبحوث تخصص اللغة والمجتمع. وتحت إشراف عميد الأكاديمية الدولية للكتاب والمفكرين المثقفين العرب السفير د. محمد جستي
=====================
١- المقدمة :
إذا كان من الصعب حصر الهُوية وتحديدها، فهذا يعود إلى طابعها الديناميكي المتعدد الأبعاد، وهو ما يضفي المرونة عليها كما أنّ الهُوية تشهد تنوعات وتخضع لإعادة صياغات وتداولات. وبالواقع أن الفرد يدمج في ذاته، بشكل تركيبي، تعددية المرجعيات الخاصة بالهُوية المرتبطة بتاريخ هذا الفرد. والفرد يعي أنه يحمل هوية ذات هندسة متغيرة تبعاً لأبعاد المجموعة التي يرجع إليها في هذه الحالة العلائقية. ويلجأ بعض المؤلفين إلى استخدام مفهوم “استراتيجية الهُوية” لكي يشيروا إلى البعد المتغير للهوية الذي لا يعد أبداً حلاً نهائياً . في هذا المنظور تبدو الهُوية بمثابة وسيلة لبلوغ هدف معين، وبالتالي فهي ليست مطلقة بل نسبية، ويشير مفهوم الإستراتيجية إلى أن الفرد، باعتباره ممثلاً اجتماعياً، لا يفتقر إلى شيء من هامش المناورة. وتبعاً لتقديره للحالة فهو يستخدم مصادره المتعلقة بالهُوية بشكل استراتيجي.فطالما أن الهُوية تشكل رهاناً لصراعات” التصنيف” الاجتماعية الهادفة إلى إعادة إنتاج أو إلى قلب علاقات السيطرة، فإن الهُوية تتكون من خلال استراتيجيات الممثلين الاجتماعيين. فإذا كانت الهُوية، عبر مرونتها، قابلة للتجيير، أي تستخدم كوسيلة فهي “أداة” بل “علبة أدوات”-، فلا يمكن للجماعات والأفراد أن يفعلوا ما يحلو لهم فيما يتعلق بالهُوية، لأن الهُوية هي دائماً ناتج تحديد شخصية معينة يفرضها الآخرون على المرء وعلى التحديد الذي يؤكده الإنسان بنفسه. إن الطابع الاستراتيجي للهوية الذي لا يقتضي بالضرورة، كما يقول بورديو، وعياً كاملاً بالغايات التي يسعى الأفراد إليها يتميز في أنه يسمح بتوضيح ظواهر اختفاء الهويات وظهورها، وهي ظواهر كثيراً ما تثير تعليقات قابلة للجدل لأنها غالباً ما تتميز بشيء من النزعة الذاتية. وبشكل أعم يمكن لمفهوم الاستراتيجية أن يفسر تنوعات الهُوية وهو ما يمكن تسميته بانتقالات الهُوية. وهذا المفهوم يبين نسبية ظواهر التحقق حيث تنبني الهُوية وتتفكك ويعاد بناؤها تبعاً للحالات. إنها دائمة الحركة، وكل تغير اجتماعي يقودها إلى إعادة صياغة نفسها بشكل مختلف.
مقدم من الباحثة : د. حنان أبو زيد
إلى الدكتور بوجمعة وعلي رئيس قسم الدراسات والبحوث تخصص اللغة والمجتمع. وتحت إشراف عميد الأكاديمية الدولية للكتاب والمفكرين المثقفين العرب السفير د. محمد جستي
=====================
١- المقدمة :
إذا كان من الصعب حصر الهُوية وتحديدها، فهذا يعود إلى طابعها الديناميكي المتعدد الأبعاد، وهو ما يضفي المرونة عليها كما أنّ الهُوية تشهد تنوعات وتخضع لإعادة صياغات وتداولات. وبالواقع أن الفرد يدمج في ذاته، بشكل تركيبي، تعددية المرجعيات الخاصة بالهُوية المرتبطة بتاريخ هذا الفرد. والفرد يعي أنه يحمل هوية ذات هندسة متغيرة تبعاً لأبعاد المجموعة التي يرجع إليها في هذه الحالة العلائقية. ويلجأ بعض المؤلفين إلى استخدام مفهوم “استراتيجية الهُوية” لكي يشيروا إلى البعد المتغير للهوية الذي لا يعد أبداً حلاً نهائياً . في هذا المنظور تبدو الهُوية بمثابة وسيلة لبلوغ هدف معين، وبالتالي فهي ليست مطلقة بل نسبية، ويشير مفهوم الإستراتيجية إلى أن الفرد، باعتباره ممثلاً اجتماعياً، لا يفتقر إلى شيء من هامش المناورة. وتبعاً لتقديره للحالة فهو يستخدم مصادره المتعلقة بالهُوية بشكل استراتيجي.فطالما أن الهُوية تشكل رهاناً لصراعات” التصنيف” الاجتماعية الهادفة إلى إعادة إنتاج أو إلى قلب علاقات السيطرة، فإن الهُوية تتكون من خلال استراتيجيات الممثلين الاجتماعيين. فإذا كانت الهُوية، عبر مرونتها، قابلة للتجيير، أي تستخدم كوسيلة فهي “أداة” بل “علبة أدوات”-، فلا يمكن للجماعات والأفراد أن يفعلوا ما يحلو لهم فيما يتعلق بالهُوية، لأن الهُوية هي دائماً ناتج تحديد شخصية معينة يفرضها الآخرون على المرء وعلى التحديد الذي يؤكده الإنسان بنفسه. إن الطابع الاستراتيجي للهوية الذي لا يقتضي بالضرورة، كما يقول بورديو، وعياً كاملاً بالغايات التي يسعى الأفراد إليها يتميز في أنه يسمح بتوضيح ظواهر اختفاء الهويات وظهورها، وهي ظواهر كثيراً ما تثير تعليقات قابلة للجدل لأنها غالباً ما تتميز بشيء من النزعة الذاتية. وبشكل أعم يمكن لمفهوم الاستراتيجية أن يفسر تنوعات الهُوية وهو ما يمكن تسميته بانتقالات الهُوية. وهذا المفهوم يبين نسبية ظواهر التحقق حيث تنبني الهُوية وتتفكك ويعاد بناؤها تبعاً للحالات. إنها دائمة الحركة، وكل تغير اجتماعي يقودها إلى إعادة صياغة نفسها بشكل مختلف.
٢- القسم الأول:
- تعريـف الهويـة :
* المبحث الاول:
- اللغة مظهر الهوية
* المبحث الثاني:
اللغة وهوية المجتمع
- تعريـف الهويـة:
إن الهُوية
هي كل ما يشخص الذات ويميزها ، فالهُوية في الأساس تعني التفرد، والهُوية هي
السمة الجوهرية العامة لثقافة من الثقافات، والهُوية ليست منظومة جاهزة ونهائية
، وإنما هي مشروع مفتوح على المستقبل ،أي أنها مشروع متشابك مع الواقع
والتاريخ، لذلك فان الوظيفة التلقائية للهوية هي حماية الذات الفردية والجماعية
من عوامل التعرية والذوبان. وإن هوية أي أمة أو مجتمع هي صفاتها التي تميزها عن
باقي الأمم لتعبر عن شخصيتها الحضارية والهُوية دائماً تجمع ثلاثة عناصر:
١-
العقيدة التي توفر رؤية للوجود
٢- اللسان الذي يجري التعبير به
٣- التراث
الثقافي الطويل المدى .
* المبحث الاول: - اللغة مظهر الهوية:
ان الهُوية لغويا هي مأخوذة من “هُوَ.. هُوَ” بمعنى أنها جوهر الشيء، وحقيقته، وتميزها اللغة كمظهر من مظاهر إثبات الهوية .. كمن يتحدث اللغة العربية تعرف هويته وكذلك باقي اللغات تعرف هويتهم غالبا من لغنهم .. وكما قال تعالى ... (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) .
لذا نجد أن الجرجاني في كتابه الذائع الصيت ”التعريفات“ يقول عنها: بأنها الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب. فان هوية الإنسان .. أو الثقافة.. أو الحضارة، هي جوهرها وحقيقتها، ولما كان في كل شيء من الأشياء – إنساناً أو ثقافة أو حضارة – الثوابت والمتغيرات .. فإن هوية الشيء هي ثوابته، التي تتجدد لا تتغير، تتجلى وتفصح عن ذاتها، دون أن تخلي مكانها لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة. واللغة هي التي تلي الدين، كعامل يميز ثقافة وهوية شعب ما عن ثقافة وهوية شعب أخر، ثم يأتي التاريخ وعناصر مظاهر اللغات المختلفة في صنع الهُوية. وبالنسبة لمن يواجهون احتياجاً لتحديد ”من أنا؟“، ”ولمن أنتمي؟“، يقدم الدين إجابات قوية، وتوفر الجماعات الدينية مجتمعات صغيرة عوضاً عن تلك التي فقدت أثناء عملية التمدين.
* المبحث الثاني: اللغة وهوية المجتمع :
ترجع كلمة "لغة" في العربية إلى المادة أو الجذر: "لغو"، أو "لغي"، وهو جذر يدور حولَ معاني الرَّمْي والطَّرْح والإلْقاء (اللفظ)، وهي معانٍ ظلَّت مقترنةً بهذا الجذر في تصاريف المادة، وحملت معاني الرَّمي وما يتَّصل بها ظلالاً، فيها الزُّهد بالشيء، وعدم أهميَّته، وكونه منبوذًا، ذلك أنَّ ما يُرمى أو يُلقى به أو يُطرح يكون كذلك.. وعلى الرغم من أنَّ البحث يَنهَد إلى قضية اللُّغة والهُويَّة في إطارها العام والمجرَّد، فإنَّ الغاية - بلا شكٍّ هي "العربية"؛ لُغتنا عربًا ومسلمين، أو منتمين إلى الحضارة العربيّة الإسلامية، والغاية أيضًا هي "الهُوية العربية الإسلامية" التي تجمع الشَّمْل، وتُوحِّد الصفَّ، وتعقد الآصرة، وإذًا فإنَّ ثمةَ وقفةً مع العربية بوصفها هُويَّة، وما تحمله في داخلها من عناصر قوَّة، ممَّا يُحفزنا على الإيمان بها من ناحية، والتمسُّك بها من ناحية أخرى، ثم ما تواجهه من عناصر ضعفٍ؛ لنكونَ معها في هذه المواجهة. إن مسألة اللغة والهُوية توحي وللوهلة الأولى، إلى المسألة الأوسع وهي مسألة الهُوية الاجتماعية التي تعد الهُوية إحدى مكوناتها، إذا لا يمكننا التطرق إلى مفهوم الهُوية إلا إذا حددنا بعدها الاجتماعي. وعليه تعبر الهُوية الاجتماعية “محصلة مختلف التفاعلات المتبادلة بين الفرد مع محيطه الاجتماعي القريب والبعيد، والهُوية الاجتماعية للفرد تتميز بمجموع انتماءاته في المنظومة الاجتماعية؛ كالانتماء إلى طبقة جنسية أو عمرية أو اجتماعية أو مفاهيمية…الخ، وهي تتيح للفرد التعرف على نفسه في المنظومة الاجتماعية وتمكن المجتمع من التعرف عليه”.
لكن الهُوية الاجتماعية لا ترتبط بالأفراد فحسب، فكل جماعة تتمتع بهوية تتعلق بتعريفها الاجتماعي وهو تعريف يسمح بتحديد موقعها في المجموع الاجتماعي. الهُوية الاجتماعية هي احتواء وإبعاد في الوقت نفسه: إنها تحدد هوية المجموعة (المجموعة تضم أعضاء متشابهين فيما بينهم بشكل من الأشكال)، في هذا المنظور تبرز الهُوية الثقافية باعتبارها صيغة تحديد فئوي للتمييز بين نحن وهم، وهو تمييز قائم على الاختلاف الثقافي. وفي كتاب تلخيص ما بعد الطبيعة يقول فيلسوفنا الكبير ابن رشد ” أن الهُوية تقال بالترادف للمعنى الذي يطلق على اسم الموجود وهي مشتقة من الهُو كما تشتق الإنسانية من الإنسان ” وهو بهذا يعود بنا إلى مفهوم الهُوية أو الذاتية في منطق أرسطو باعتبارها تماثل الشئ مع ذاته. إنَّ كلاًّ من اللُّغة والهُويَّة خاصية إنسانيَّة، فاللُّغة هي لغة الإنسان، لا يشاركه فيها كائنٌ آخر، وكذا شأن الهُويَّة، فما يجمع بين فصيل من الحيوانات أو سِرْب من الطيور أو نحو ذلك، ليس بالتأكيد هُويَّة. وإنَّما كانتا (اللُّغة والهُويَّة) خاصيتَين إنسانيتَين؛ لأنَّ الإنسان وحدَه هو الذي يملك الوعي، والشُّعور بالذات، وبالآخر، وهذا ما يجعلنا نقول إنَّ كلاًّ منهما مرتبط بالعقل، وهذه دائرةٌ جديدة مرتبطة أشدَّ الارتباط بسابقتها، هما إذًا خاصيتان عاقلتان. وهما أيضًا أوَّليتان، بمعنى أنَّهما قديمتان وُجدتَا مع وجود الإنسان على هذه الأرض، إنَّ الله – سبحانه وتعالى - ميَّز آدم – عليه السلم – بـ "عِلْم الأسماء"، وما الأسماء في حقيقتها إلاَّ نوع من اللُّغة التي تجعله قادرًا على التفكير فيما يحيط به، والتعامل معه، ثم إنَّ هذه العملية - عملية التعليم نفسِه لآدم - حدَّدت هُويته ومَيَّزته عن غيره من المخلوقات، فهو كائنٌ مختلف يعرف ما لا يعرفون، ولديه خصائص ليستْ فيهم. وكلٌّ منهما كذلك كُلٌّ مركَّب، بلغة الفلسفة والمنطق؛ أعني: أنَّهما أشياءُ تندرج تحتها أجزاء، وهي أجزاء متداخلة لا يمكن فصلُ بعضها من بعض، اللُّغة تحتوي طرائقَ التفكير والتاريخ والمشاعر، وإرادة الناس وطُموحاتهم وشَكْل علاقاتهم، والهُويَّة أيضًا هي هذه العناصر في كُلِّيتها وتركُّبها. وهُمَا - إضافةً إلى ذلك - تاريخيتان، بمعنى أنَّهما محتاجتان إلى التاريخ أو الزَّمن حتى تتشكَّلاَ وتتعمَّقَا، وتأخذَا الأبعاد اللازمة، ولا يَتنافى هذا مع ما قُلناه من أنَّهما أوَّليتان، فأوليتهما يُراد منها الإشارةُ إلى ملازمتهما للإنسان، وتاريخيتهما تُشير إلى ما تحتاجانِ إليه حتى تنضجَا. فان اللُّغة والهُويَّة هما وجهان لشيء واحد، أي إنَّ الإنسان في جوهره ليس سوى لُغة وهُويَّة، اللُّغة فِكرُه ولسانه، وفي الوقت نفسه انتماؤه، وهذه الأشياء هي وجهه وحقيقته وهُويته، وشأن الجماعة، أو الأمَّة هو شأن الفرْد، لا فرق بينهما.
* المبحث الاول: - اللغة مظهر الهوية:
ان الهُوية لغويا هي مأخوذة من “هُوَ.. هُوَ” بمعنى أنها جوهر الشيء، وحقيقته، وتميزها اللغة كمظهر من مظاهر إثبات الهوية .. كمن يتحدث اللغة العربية تعرف هويته وكذلك باقي اللغات تعرف هويتهم غالبا من لغنهم .. وكما قال تعالى ... (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) .
لذا نجد أن الجرجاني في كتابه الذائع الصيت ”التعريفات“ يقول عنها: بأنها الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب. فان هوية الإنسان .. أو الثقافة.. أو الحضارة، هي جوهرها وحقيقتها، ولما كان في كل شيء من الأشياء – إنساناً أو ثقافة أو حضارة – الثوابت والمتغيرات .. فإن هوية الشيء هي ثوابته، التي تتجدد لا تتغير، تتجلى وتفصح عن ذاتها، دون أن تخلي مكانها لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة. واللغة هي التي تلي الدين، كعامل يميز ثقافة وهوية شعب ما عن ثقافة وهوية شعب أخر، ثم يأتي التاريخ وعناصر مظاهر اللغات المختلفة في صنع الهُوية. وبالنسبة لمن يواجهون احتياجاً لتحديد ”من أنا؟“، ”ولمن أنتمي؟“، يقدم الدين إجابات قوية، وتوفر الجماعات الدينية مجتمعات صغيرة عوضاً عن تلك التي فقدت أثناء عملية التمدين.
* المبحث الثاني: اللغة وهوية المجتمع :
ترجع كلمة "لغة" في العربية إلى المادة أو الجذر: "لغو"، أو "لغي"، وهو جذر يدور حولَ معاني الرَّمْي والطَّرْح والإلْقاء (اللفظ)، وهي معانٍ ظلَّت مقترنةً بهذا الجذر في تصاريف المادة، وحملت معاني الرَّمي وما يتَّصل بها ظلالاً، فيها الزُّهد بالشيء، وعدم أهميَّته، وكونه منبوذًا، ذلك أنَّ ما يُرمى أو يُلقى به أو يُطرح يكون كذلك.. وعلى الرغم من أنَّ البحث يَنهَد إلى قضية اللُّغة والهُويَّة في إطارها العام والمجرَّد، فإنَّ الغاية - بلا شكٍّ هي "العربية"؛ لُغتنا عربًا ومسلمين، أو منتمين إلى الحضارة العربيّة الإسلامية، والغاية أيضًا هي "الهُوية العربية الإسلامية" التي تجمع الشَّمْل، وتُوحِّد الصفَّ، وتعقد الآصرة، وإذًا فإنَّ ثمةَ وقفةً مع العربية بوصفها هُويَّة، وما تحمله في داخلها من عناصر قوَّة، ممَّا يُحفزنا على الإيمان بها من ناحية، والتمسُّك بها من ناحية أخرى، ثم ما تواجهه من عناصر ضعفٍ؛ لنكونَ معها في هذه المواجهة. إن مسألة اللغة والهُوية توحي وللوهلة الأولى، إلى المسألة الأوسع وهي مسألة الهُوية الاجتماعية التي تعد الهُوية إحدى مكوناتها، إذا لا يمكننا التطرق إلى مفهوم الهُوية إلا إذا حددنا بعدها الاجتماعي. وعليه تعبر الهُوية الاجتماعية “محصلة مختلف التفاعلات المتبادلة بين الفرد مع محيطه الاجتماعي القريب والبعيد، والهُوية الاجتماعية للفرد تتميز بمجموع انتماءاته في المنظومة الاجتماعية؛ كالانتماء إلى طبقة جنسية أو عمرية أو اجتماعية أو مفاهيمية…الخ، وهي تتيح للفرد التعرف على نفسه في المنظومة الاجتماعية وتمكن المجتمع من التعرف عليه”.
لكن الهُوية الاجتماعية لا ترتبط بالأفراد فحسب، فكل جماعة تتمتع بهوية تتعلق بتعريفها الاجتماعي وهو تعريف يسمح بتحديد موقعها في المجموع الاجتماعي. الهُوية الاجتماعية هي احتواء وإبعاد في الوقت نفسه: إنها تحدد هوية المجموعة (المجموعة تضم أعضاء متشابهين فيما بينهم بشكل من الأشكال)، في هذا المنظور تبرز الهُوية الثقافية باعتبارها صيغة تحديد فئوي للتمييز بين نحن وهم، وهو تمييز قائم على الاختلاف الثقافي. وفي كتاب تلخيص ما بعد الطبيعة يقول فيلسوفنا الكبير ابن رشد ” أن الهُوية تقال بالترادف للمعنى الذي يطلق على اسم الموجود وهي مشتقة من الهُو كما تشتق الإنسانية من الإنسان ” وهو بهذا يعود بنا إلى مفهوم الهُوية أو الذاتية في منطق أرسطو باعتبارها تماثل الشئ مع ذاته. إنَّ كلاًّ من اللُّغة والهُويَّة خاصية إنسانيَّة، فاللُّغة هي لغة الإنسان، لا يشاركه فيها كائنٌ آخر، وكذا شأن الهُويَّة، فما يجمع بين فصيل من الحيوانات أو سِرْب من الطيور أو نحو ذلك، ليس بالتأكيد هُويَّة. وإنَّما كانتا (اللُّغة والهُويَّة) خاصيتَين إنسانيتَين؛ لأنَّ الإنسان وحدَه هو الذي يملك الوعي، والشُّعور بالذات، وبالآخر، وهذا ما يجعلنا نقول إنَّ كلاًّ منهما مرتبط بالعقل، وهذه دائرةٌ جديدة مرتبطة أشدَّ الارتباط بسابقتها، هما إذًا خاصيتان عاقلتان. وهما أيضًا أوَّليتان، بمعنى أنَّهما قديمتان وُجدتَا مع وجود الإنسان على هذه الأرض، إنَّ الله – سبحانه وتعالى - ميَّز آدم – عليه السلم – بـ "عِلْم الأسماء"، وما الأسماء في حقيقتها إلاَّ نوع من اللُّغة التي تجعله قادرًا على التفكير فيما يحيط به، والتعامل معه، ثم إنَّ هذه العملية - عملية التعليم نفسِه لآدم - حدَّدت هُويته ومَيَّزته عن غيره من المخلوقات، فهو كائنٌ مختلف يعرف ما لا يعرفون، ولديه خصائص ليستْ فيهم. وكلٌّ منهما كذلك كُلٌّ مركَّب، بلغة الفلسفة والمنطق؛ أعني: أنَّهما أشياءُ تندرج تحتها أجزاء، وهي أجزاء متداخلة لا يمكن فصلُ بعضها من بعض، اللُّغة تحتوي طرائقَ التفكير والتاريخ والمشاعر، وإرادة الناس وطُموحاتهم وشَكْل علاقاتهم، والهُويَّة أيضًا هي هذه العناصر في كُلِّيتها وتركُّبها. وهُمَا - إضافةً إلى ذلك - تاريخيتان، بمعنى أنَّهما محتاجتان إلى التاريخ أو الزَّمن حتى تتشكَّلاَ وتتعمَّقَا، وتأخذَا الأبعاد اللازمة، ولا يَتنافى هذا مع ما قُلناه من أنَّهما أوَّليتان، فأوليتهما يُراد منها الإشارةُ إلى ملازمتهما للإنسان، وتاريخيتهما تُشير إلى ما تحتاجانِ إليه حتى تنضجَا. فان اللُّغة والهُويَّة هما وجهان لشيء واحد، أي إنَّ الإنسان في جوهره ليس سوى لُغة وهُويَّة، اللُّغة فِكرُه ولسانه، وفي الوقت نفسه انتماؤه، وهذه الأشياء هي وجهه وحقيقته وهُويته، وشأن الجماعة، أو الأمَّة هو شأن الفرْد، لا فرق بينهما.
٣- القسم الثاني:
اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية
* المبحث الأول:
- اللغة الوطنية والهوية
* المبحث الثاني:
- اللغة والهوية والتنمية
- اللغة
والهوية الثقافية والاجتماعية:
بين اللُّغة والهوية الثقافية رِباط حميم، ذلك
أننا لا نتصوَّر لغةً ما لا تنتج ثقافة، أيا كانت اللغة، وأيا كانت الثقافة،
كما أننا لا نتصور ثقافة لا تعتمد في جانب أساس منها على منبع لُغوي يحتويها،
ويتفاعل معها وينقلها، إذاً هما دائرتان متداخلتانِ لا يُمكن أن نُخَلِّص
إحداهما من الأخرى، نقول ذلك دونَ أن ندخل في تعريفاتِ الثقافة وتوجُّهاتها،
فليس هذا موطنَه، إذ ما يهمنا أن نؤكِّد على نقطة مهمَّة؛ هي: أنه إذا كانت
اللغة هي الفِكرَ الذي يتفاعل مع الأشياء، ويقف منها أو معها مواقفَ محدَّدة،
فإن الثقافة هي أيضًا ذلك الشيء، أو تلك الأشياء المتشابكة، وغير الملموسة التي
تُملي عليه طرائقه في التعامل مع الأشياء، وتحدد استجاباتِه تُجاهها، نحن إذًا
أمام وجهين لشيءٍ واحد، قد تكون الثقافة أعمَّ، إذِ اللُّغة عنصر مهمٌّ للغاية
في بنائها، وتوجيه مسارها، على أنَّ للثقافة دورَها الخطير في التأثير في
اللُّغة باعتبارها فكراً، واللغة والهوية الثقافية معاً ليستَا نابعتَين من
داخل الإنسان، أو ليستَا فرديتين؛ لكنَّهما جزءٌ من حراك الوسط الذي يعيشانِ
فيه، ومِن هنا تأتي التفرقة الضروريَّة بينهما، وبين العِلم "الثقافة نظرية في
السُّلوك أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة، وبهذا يمكن أن يُقاس الفرق الضروري
بين الثقافة والعِلم" وللهُوية تعريفات عديدة عند الفلاسفة والمتصوِّفة وعلماء
النفس والرِّياضيات والمنطق، وتصبُّ جميعًا في النهاية في دلالات، والحقيقة
والماهية والذات، والوحدة والاندماج، والانتماء والتساوي والتشابه. وقد تكون
"الهُوية" جزئية يسيرة خاصة بشيء، أو إنسانٍ بعينه، وقد تكون كليَّة مركَّبة،
خاصَّة بجماعة أو شعب أو أُمَّة؛ لكنَّها في صورتها الأولى في أدنى السلم إنْ
كان ثمةَ سُلمٌ يمكن وضعُه لهذا المفهوم، وكلَّما اتسعت الهويَّة لتشملَ
أفراداً أكثر تعقيداً وتشابكاً وتركيباً؛ لأنَّها تصبح أعمقَ دلالة على
أفرادها، وأكثرَ تعبيراً عن رؤاهم، وأشد التصاقاً بمصالحهم وغاياتهم الجمعيّة.
على أنَّ اللغة والهُوية التي نتغيَّاهما لا يولدا مع الإنسان، ولا يتشكّلا
مرةً واحدة، لكنهما أكتسبوا من المجتمع المحيط بهما ، كما أنَّهما ليسوا حراكًا
في داخله؛ بل هي ذاتُ عَلاقة وثيقة بالمحيط. إنَّ هوية الإنسان يرسمها ويحدِّد
شكلَها وألوانها ما يَرِد إليه من خارجه، وما تثمره علاقاتُه بالآخرين؛ ولهذا
فإنَّها لا بد أن تكون ولو في بعض صُوُرها جزءاَ من هُوية مجتمعه، أو تحمل على
الأقلِّ بعضَ ملامح هذا المجتمع. والمجتمع الذي نقصده هنا ليس هو المجتمعَ
الحاضر فقط، أقصد الوسط الاجتماعي الذي يراه ويتعامل معه الإنسان؛ ولكنَّه
أيضًا المجتمع التاريخي، أو تاريخ الجماعة التي ينتمي إليها، والتاريخ بالطبع
هو كلٌّ مركَّب، فيه العلوم والمعارف، والمواقف والذكريات والمشاعر، أفراحاً
وأتراحاً، والتجارِب إيجاباً وسلباً، كلُّ ذلك يُسهم في تشكيل هوية الفرد، كما
يسهم بالقدر نفسه وربما بصورة أعمقَ في تشكيل هوية الجماعة كلها. وليس الزمن
ماضياً وحاضراً، بما فيه، ومَن فيه هو وحْدَه صاحبَ التأثير في بناء ملامح
الفرد والجماعة، فهناك أيضا المكان (الجغرافيا)، هذا أيضًا له دَورُه في صياغة
الهويَّة. على أنَّ ثمَّة عنصراً آخر يفوق تلك العناصر مجتمعة، هو عنصر الفِكر
أو الرؤية، أو الفلسفة، وما يرتبط بذلك من ثوابت ترى الجماعةُ من خلالها
أنفسَها وعلاقاتِها، والعالَمَ من حولها. ويندرج تحت هذا العنصر الدِّين،
فالدِّين ليس سوى رؤيةٍ للذات والكون والآخَر. وكلَّما كان الفكر عميقًا قادراً
على النفاذ إلى حقائق الأشياء وجواهرها، كان أكثرَ قدرةً على بناء الإنسان،
وربطِه بأولئك الذين يشتركون معه في ثوابته الفكريَّة، وتوحيده معهم، وصياغته
وصياغتهم في بوتقة واحدة.
* المبحث الأول: - اللغة الوطنية
والهوية :
هُوِيَّةُ الْإِنْسَانِ : حَقِيقَتُهُ الْمُطْلَقَةُ وَصِفَاتُهُ
الْجَوْهَرِيَّةُ وأما الْمُوَاطَنَة
: فهي صِفَةُ الْمُوَاطِنِ ان اللغة هي المكون الأساسي من
مكونات الهوية، فلا يمكن فهم صعود اللهجات المحلية المتفرعة من اللاتينية في
أوربا إلّا بصعود الفكر القومي، كما يمكنها أن تقوم بأدوار سياسية خطيرة كتقوية
الجبهة الداخلية أو خلق الصراعات السياسية.
كما تسهم اللغة العربية في تكوين
هوية خاصة لاعتبارات، منها أنّها هي نفسها تقدِّم تصوراً للعالم هذه بعض
معالمه:
- تقدم اللغة العربية تقطيعاً خاصاً للفضاء الزمني والمكاني
نتيجة الطبيعة الجغرافية للمنطقة العربية (أسماء الإشارة إلى المكان وأقسام
الليل والنهار).
- تقدم تقطيعاً خاصاً للأشخاص (المفرد والمثنى والجمع).
- تقدم نظرة خاصة للأشياء، فهي إما مذكرة أو مؤنثة. - تعكس علاقة
العربي بالآخر، إذ يتم الانتقال من الذات إلى الآخر وهو ما تعكسه بنية الضمائر
(حيث تضاف تاء المخاطب إلى ضمير المتكلم أنا – أنت).
- تعكس بنيتها
الاقتصادية الطبيعية الصحراوية الشاقة التي عاش فيها العربي (قلة الماء
والطعام).
إنّ الدين يشكل سقف الهوية، وإذا ثبت ذلك عرفنا أهمية اللغة العربية
في بناء الهوية الوطنية للدول العربية، إذ لا تكاد تنفصل عن دينها، فقد حرم
الفقهاء التعبد بغير النص العربي (لا يجوز استعمال غير اللغة العربية في إعلان
الشهادة والصلاة)، بل ميّز الفقهاء في قراءة القرآن بين ثواب التدبر وثواب
القراءة، فقالوا إنّ لقارئ القرآن باللغة الأجنبية ثواب التدبر فقط، لا ثواب
القراءة.
تشكل اللغة العربية رمزاً للهوية العربية في امتدادها التاريخي بسبب
طابعها الكتابي الذي استطاع أن يخلِّد مئات الآلاف من الأعمال والآثار
المحفوظة، فتزداد حميميتنا بأجدادنا كلما أفصحت الكتب عن طريقة تفكيرهم
ومشاعرهم وعظيم إنجازاتهم. ما يميز اللغة العربية هو أنّها تسهم في خلق هوية
شاملة، فإذا كانت هوية بعض الثقافات هوية جزئية ترتبط ببعض المظاهر الثقافية
كالغناء واللباس والطعام والشعر والقصص، فإنّ اللغة العربية تخاطب ذاكرة العربي
ووجدانه وعقله وروحه ومخيلته. تقوم اللغة العربية بدور الهوية الجامعة، إذ
إنّها تنفي الخصوصيات الجهوية والعرقية لنبوّها عن التواصل اليومي، واكتفائها
بالمستوى الرفيع الذي تتطلبه مقامات ذات طابع رسمي كالإعلام والتعليم
والإدارة... من دون انفصالها التام عن لهجاتها، بحيث إذا سألنا المغربي أو
الكويتي أو المصري في أي منطقة لهجية عن اللغة التي يتحدث بها، فإنّه لن يتردد
في القول إنّه يتحدث اللغة العربية، إحساساً منه بهذا المثل اللغوي الأعلى،
وبهذا الاعتبار يحس بالمشترك بينه وبين عدد كبير من أبناء وطنه وأُمته. وتقوم
المدرسة أيضاً بدور حاسم في خلق الشعور بالوحدة الوطنية، إذ يحس كلّ أبناء
الوطن أنّهم يدرسون المقررات نفسها ويتعاملون مع النصوص نفسها، وقد يتفاعلون
بدرجة متشابهة مع نص ما إيجاباً أو سلباً، فيخلق ذلك فيهم رابطة روحية عالية،
ولا شك في أنّ اللغة العربية تقوم بدور كبير في هذا المجال، لاسيّما إذا عرفنا
أنّ أغلب المواد ذات البعد الثقافي كاللغة والدين والتاريخ تدرس بهذه اللغة.
فيسهم العمق التاريخي والجغرافي للعربية في خلق إحساس كلّ مواطن عربي بوحدة
الانتماء إلى ثقافة كبرى هي الثقافة العربية الإسلامية، إنّ اللغة العربية هي
اللغة الوحيدة القادرة على ضمان الحظوظ الاجتماعية لجميع العرب بسبب قربها من
الدوارج واللهجات التي يُعدُّ تعلمها استبطاناً لجزء كبير من البنية اللغوية
للعربية الفصحى، مما سيقطع الطريق على أولئك الذين لا يتدرجون في سلم الارتقاء
الاجتماعي على أساس الكفاءة المهنية، بل على أساس التنشئة الاجتماعية الطبقية
التي تحضر فيها اللغة الأجنبية بشكل ملحوظ. وثمَّةَ عناصرُ أخرى؛ مثل
الإرادة المشتركة، والدولة، والمصالح الاقتصاديَّة، يرى بعضُهم فيها
عواملَ مهمَّة في بناء اللغة الوطنية والهويَّة.
* المبحث
الثاني: - اللغة والهوية والتنمية:
لا يخفى على ذي لُبٍّ ما للغةِ العربية
من أهميةٍ عظمى؛ في كونها لغة القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكونها جزءًا من
ديننا، بل لا يمكنُ أن يقومَ الإسلام إلا بها، ولا يصح أن يقرأَ المسلم القرآنَ
إلا بالعربية. اللغة هي الفكر وهي الهوية وهي الماضي والحاضر والمستقبل إن
الإنسان بطبيعته كائن منتمٍ، فلا يستطيع أن يشكل وجوده أو يعيش حياته بمعزل عن
الآخرين. ولا يستطيع كذلك أن يبدع لغة خاصة تعزله عن سواه من البشر،
الذين يشاركونه، أو بالأصح يشاركهم واقعهم الاجتماعي والسياسي
والثقافي. وهذا الواقع المشترك الذي يفرض الهوية المشتركة، هو الواقع
نفسه الذي يفرض الانتماء إلى هذه الهوية دينية كانت، أو لغوية، أو وطنية.
والهوية لا تتأتى بين يوم وليلة؛ وإنما هي خلاصة تعايش طويل لقوم أو مجموعة
أقوام تحدد، بمرور الزمن، مكانهم الجغرافي، وتحددت معالم لغتهم المشتركة
وقواعدها، وتحددت معها طموحاتهم وأحلامهم، وصاروا بحكم ذلك التكوين منتمين
بالضرورة إلى هذا المكان وهذه اللغة. وأي تصدع في جدار الانتماء لابد أن يصدر
تصدعات واسعة في جدران الهوية والمكان واللغة. وعرفت اللغة العربية تطورا
رافقها عبر الزمن، وكان للقداسة التي رافقتها الأثر الكبير في صمودها والتمسك
بهوية القوم ووحدتهم وانتمائتهم، باعتبارها اللغة الأم، وهو أمر لا نظير له،
ولا يناظر ضراوة اللغة إلا صمودها فهي اللغة الحصينة عن الهوية والوحدة
القومية. ولا يناظر جبروت اللغة إلا حنوها، وكيف لا، واللغة الأم هي شريكة ثدي
الأم في إيضاح وعي الصغير، وهي راعية المتعلم، وملهمة المبدع وهادية المتلقي.
ولقد جعل هذا الذود عن الهوية القومية اللغة العربية في مهب المعركة التي تواجه
العديد من اللغات، وهي الصراع من أجل البقاء اللغوي، إن جاز هذا التعبير.
لذا
كان لزاما على العرب الانخراط – بكل ما أوتوا من قوة فكرية ومعرفية – في خدمة
لغتهم ليس فقط من أجل الحفاظ عليها. ثم إن ما تعانيه العربية حاليا يرجع إلى
عجز أهلها لا لنقص في تأهلها، فاللغة العربية مؤهلة ليس فقط لتلبية مطالب مجتمع
المعرفة، بل أيضا لتسهم بدور ريادي في مجال المعرفة اللغوية على النطاق
الإنساني، وذلك بفضل ما تتسم به منظومتها من توازن دقيق على المستوى
الفيلولوجي، وتوسطية لغوية فريدة ما بين لغات العالم المختلفة على مستوى
الوحدات اللغوية المختلفة: حرفا وصوتا ولفظا وتركيبا. فاللغة العربية قادرة
ولديها المؤهلات التي تمكنها من توفير الأرضية المناسبة لولوج مجتمع المعرفة،
بل وللإسهام في المجال المعرفي الإنساني بفضل منظومتها الدقيقة، وتوسطها بين
اللغات العالمية، فيما يخص إمكان تمثيل جميع وحداتها اللغوية على اختلافها.
ولكن هل هذا هو واقع اللغة العربية اليوم؟ وهل ينظر لها أبناؤها هذه النظرة
الإيجابية؟ أم أن الوضع يختلف، عندما يتعلق الأمر بالثقة في قدرة لغتنا على
مواكبة التطورات، التي تعرفها اللغات الطبيعية التي أفرزتها تكنولوجيا
المعلومات والهندسة الوراثية، التي وضعت اللغة على قمة الهرم المعرفي، حيث
أصبحت رابطة عقد الخريطة المعرفية والركيزة الأساس لفلسفة العلم، بل لم يعد
هناك مذهب فلسفي إلا أصبح له شقه اللغوي، فصار لكل شيء لغته الخاصة، فلكل من
الجسد والعيون والحاسوب والبرمجة لغة، الخ؛ بل إن كل ما يحصل في العالم من
تطورات متلاحقة، ومتغيرات متسارعة، وتقلبات حثيثة إعلاميا وعلميا ومعرفيا، لم
يكن ليحصل خارج اللغة. إن اللغة العربية تعرف إهمالا كبيرا من حيث التنظير
والتعليم والاستخدام والتوثيق، في الوقت الذي تعرف فيه جبهة اللغة في العالم
ثورة في التنظير اللغوي مصاحبة لتكنولوجيا متقدمة لا تقل ثورية في تطبيق أساليب
الذكاء الاصطناعي، والعلوم المعرفية، وتكنولوجيا الأعصاب، على معالجة اللغات
الطبيعية بواسطة الحاسوب، من أجل تحقيق هدف واضح هو إكساب الآلة تلك المهارات
اللغوية التي يتمتع بها بنو البشر. ولهذا يتوقع أن تحدث فجوة لغوية تفصل بين
اللغة العربية وباقي لغات العالم على مستوى التنظير، وفي المعاجم، وفي تعليم
اللغة وتعلمها، وفي استخدام اللغة وتوثيقها، وفي معالجة اللغة وترجمتها آليا،
وربما يؤدي ذلك في النهاية إلى انتكاس تعليمنا كسابق عهده مرتدا إلى اللغات
الأجنبية.
تابع البحث بالقسم الثاني للمبحث الثاني (للغة والهوية والتنمية ) :
وان اللغة لم تعد مجرد أداة ووسيلة للاتصال، أو نسقا رمزيا ضمن أنساق رمزية
أخرى، بل أصبحت أهم العلوم المغذية لتكنولوجيا المعلومات، وأخطر ظواهر مجتمع
المعلومات قاطبة، وواسطة العقد بين جميع أنساق الرموز الأخرى التي تسري في كيان
هذا المجتمع. وتعد اللغة العربية إحدى مرتكزات الهُوية، فعند دراسة التاريخ
الاستعماري للمجتمعات العربية، نلاحظ من جانب تركيز المستعمر على استهدافها،
باعتبارها لغة الدين، وركيزة الثقافة.واعتقد المستعمر أن إحكام السيطرة على
الأرض، لا يتأتى إلا بالسيطرة على الثقافة، لذلك شجع المستعمر الانكليزي
والفرنسي استخدام اللهجة العامية عوضاً عنها. ومن جانب آخر نلاحظ مساهمتها في
على تعبئة قوى الأمة في أقطارها المختلفة للتحرر والاستقلال وإخراج المستعمر،
وإجلائه عن أوطانها، واستعادة سيادتها عليها، وأورد هنا عبارة للمستشرق الفرنسي
جاك بيرك -عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة-، والذي عاش لفترات طويلة في بلدان
المغرب العربي، خاصة في المملكة المغربية، قال:" إن اللغة العربية هي أقوى القوى
التي قاومت الاستعمار الفرنسي في المغرب، بل هي اللغة العربية الكلاسيكية
الفصحى بالذات، فهي التي حالت دون ذوبان المغرب في فرنسا. إن الكلاسيكية
العربية التي بلورت الأصالة الجزائرية، وقد كانت هذه الكلاسيكية عاملاً في بقاء
الشعوب العربية". ويعد تحدي عولمة الثقافة اللغوية من أكبر التحديات التي تواجه
اللغة العربية التي تندفع في اكتساح جارف للخصوصيات اللسانية واللغوية
والثقافية التي هي القاعدة الصلبة للوجود المادي والمعنوي للأمة العربية، لتشكل
خطراً محدقاً بالهوية القومية. باعتبارها وعاء للثقافة العربية وللحضارة
الإسلامية، وهناك أخطاراً تتفاقم باطراد، تأتي من هيمنة النظام العالمي الذي
يرفض صياغة عالم متعدد الأقطاب والثقافات، ويسعى لفرض اللغة الأقوى، على
المجتمعات الإنسانية التي تقصر وسائلها الدفاعية الثقافية والسياسية
والاقتصادية عن التصدي لهذه الهجمة اللغوية الشرسة التي تهدد الأسس الثقافية
والخصائص الحضارية. وإن من غير المعقول أن يدعو امرؤ إلى اللحاق بالحضارة
والتقدم عن طريق الإساءة إلى هويته ولغته وإظهارهما بمظهر العجز والتخلف. فلا
توجد على وجه الأرض أمة تبدأ مشروعها النهضوي بتحقير ذاتها وزعزعة الثقة
بإنجازاتها ومكونات شخصيتها. فالبناء الحضاري يحتاج إلى مخزون كبير من الثقة في
النفس والقدرات الذاتية. لقد كثر عند البعض من يدعون إلى الحداثة هذه الأيام
ولوم الثقافة العربية واللغة العربية وتحميلها وزر عجزهم عن تقديم برامج
للإصلاح والنهضة" تنفع الناس وتمكث في الأرض".
تابع البحث بالقسم الثاني للمبحث
الثاني (للغة والهوية والتنمية ) :
واليوم، تعيش اللغة العربية مظاهر العولمة بكل
تعقيداتها فالمتتبع لأحوالها في جميع أقطار الوطن العربي، يستشرف الأخطار
الكبيرة التي تحملها العولمة، على وجود العربية لغة حية في جميع مناحي الحياة
السياسية والثقافية والعلمية والعملية. فقد أقصيت اللغة العربية عن أن تكون لغة
البحث العلمي والتدريس الجامعي في معظم الأقطار العربية، وتستشري هذه السياسة
المعادية للغة العربية في معظم الأقطار العربية، وتلجأ كثير من المدارس الخاصة
للتدريس باللغة الأجنبية، منذ الصف الابتدائي. في حين لا توجد في" إسرائيل"
مدرسة واحدة تدرس بغير اللغة العبرية إلا إذا كانت لأبناء العاملين في السفرات
الأجنبية. فالعبرية في حالتهم ليس مجرد تواصل، بل أداة بناء الأمة. إذ يصعب على
مواطنٍ ياباني، أو فرنسي، أو حتى " إسرائيلي" أن يفهم كيف يمكن أن يولد أطفال
لوالدين فرنسيين أو يابانيين أو ألمانيين أو " إسرائيليين" ينمون وينشأون في
بلدهم، ولكنهم لا يتحدثون لغتهم الأم، لا في البيت ولا المدرسة، ولا يدرسون
العلوم في بلدهم بلغتهم، فالتحدث بلغة الأم والتعلم بها أمر طبيعي وبديهي في
نظر مواطن تلك البلاد، لذا يعد الابتعاد عن اللغة الأم تبعدنا عن المساهمة في
المنجزات الثقافية والعلمية للحضارة في عصرنا. والمجتمع الذي لا ينجز ذلك في
بلده بلغته، لا يتفاعل مع العولمة في الواقع، ولا يتطور معها، بلد يقلد ولا
يبدع،ويكرس تخلفه وتخلف مجتمعه. ومن لا يتفاعل مع العولمة، ولا يجاري التطور في
الاقتصاد والعلم والفنون بلغته من خلال مجاراتها للتطور، يبقى على هامش الحضارة
الإنسانية، ولا يساهم فيها، بل أكثر من ذلك أيضا يحجب التطور عن لغته ذاتها.
فاللغة، ومعها المفاهيم والثقافة، لا تتطور إذا أقصيت من الاستخدام في المجالات
الديناميكية المتطورة والمتغيرة باستمرار، مثل العلوم والفنون والاقتصاد، وإذا
اقتصرت استخدامها على الأدب والمقالة والخطابة مثلاً. ومن ناحية أخرى لا تحاصر
اللغة العربية فقط في المؤسسات التعليمية فقط، وإنما أيضا في معظم مناحي
الحياة. ، فنرى نفراً من أبناء الأمة يعتقد أن استعمال اللغة الأجنبية أمارة
على التقدم والعلم والأناقة، في الوقت الذي يرى فيه أن استعمال اللسان العربي
دلالة على التخلف. وها هي الأم في الطبقات الحريرية تخاطب أبناءها باللسان
الأجنبي، وها هو ذا الموظف يخاطب زبونه باللسان الأجنبي ليظهر نفوذه، وها هو ذا
المثقف يطعم كلامه بالكلمات الأجنبية دلالة على ثقافته العصرية، وها هي الشركات
على الأرض العربية تعلن عن حاجتها إلى موظفين يتقنون اللغة الأجنبية، وها هي ذي
المراسلات بين المصارف تستعمل في الأجنبية، وها هي ذي الإعلانات في الطرقات وفي
الساحات العامة وعلى واجهات المحال التجارية تستعمل الكلمات الأجنبية ويمانع
أصحابها إذا ما طلب إليهم استبدال العربية بالأجنبية. ونلاحظ في الوقت نفسه أن
العاملين والعاملات من الجنسيات الأجنبية على الأرض العربية ليسوا في حاجة إلى
أن يتعلموا العربية، لأنهم يقضون حاجاتهم وينفذون متطلباتهم باستعمال الأجنبية
مع أبناء العربية، الذين تنازلوا عن لغتهم القومية ليتحدثوا مع هؤلاء بلسانهم
أو بلسان أجنبي آخر. فالعلاقة بين اللغة العربية وبين العولمة، علاقة ذات صلة
بمستقبل هذه اللغة. وليس من شك أن مستقبل اللغة العربية في عالم متغير تهيمن
عليه آليات العولمة وضغوطها، يقترن بالتنمية الشاملة المتكاملة المتوازنة
المستدامة.
٤- الخاتمة:
من الحقائق المقررة أن اللغة العربية هي وعاء الأمة الفكر
والذخيرة، ومستودع القيم الثقافية وكذلك الاجتماعية. وتوهين لغتنا وإضعافها،
ونبذها وإحلال أخرى مكانها، قد يؤدي إلى بلبلة في فكر أبنائها وقيمهم العريقة،
وفي معاني الهوية والانتماء. وإذا تخلى امرؤ عن لغته واصطنع لغة غيرها، فإن
تفكيره وفكره يتحول شيئًا فشيئًا إلى مخزون تلك اللغة ودخائرها، ويرتبط
تدريجيًّا بعادات أهلها وقيمهن ومع مرور الوقت يتحول انتماؤه إلى ثقافتهم، وقد
يعجز-فيما بعد- عن التعبير عن شعوره وعواطفه بلغته التي تلقاها بفطرته وغريزته
من أمه، ويستخدم تعابير اللغة التي جرفت ثقافته، وغيبت معالمه.
وإنّ التنمية
اللغوية تبدأ بتفعيل كلّ النصوص والقرارات الرّامية إلى تمكين اللغة في الحياة
العامّة، والهادفة إلى القضاء على الفوضى اللغوية، والعمل على جعلها لغة فاعلة
في جميع القطاعات، ومنفعلة مع كلّ التغيّرات، بغية تحقيق نموّ لغويّ تنبني عليه
كل الأشكال التنمويّة الأخرى البشريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.
وإن حماية
اللغة العربية من هجمات العولمة هي واجب قومي وديني في آن واحد، فاللغة العربية
هي السياج المتين الذي يحميها من آثار العولمة، ومناهضة العولمة تستدعي توعية
الجماهير العربية وتعريفهم بأهدافها الخبيثة وجوانبها السلبية، ومن واجب الأمة
العربية حماية لغتها وتراثها وبيان الجوانب المضيئة في حضارة أمتنا وتاريخنا.
(
اللغة وهوية الأحرار)...
قيد أمتنا العربية بالأغلال والحصار
انزع عنهم لغتهم
وهويتهم والستار
اسلب منهم جوازات عبورهم للأقطار
مزق أسّرَّتهم كي لا ينامون
ليل أو نهار
حطم الموائد والأواني واحرق الأشجار
كي لا يجدون ولا يتذوقون طعم
الثمار
فمهما نزعت منهم أيامهم وكل الأعمار
وأخرست الأصوات وأبكمت أفواه الصغار
سينطقون بلساناً عربياً والحق الجبار
ولن تستعبد شعباً لديه العزيمة والإصرار
لغته وهويته هي عزته وحمايته كالثوار
فمهما فعلتم وسلبتم منهم لا يزالون أحرار
هو إرث الأجداد والحضارة وحضن الدار.
بقلمي. د. حنان أبو زيد
وأخيراً فان اللغة
والهوية كيان واحد ولهما ودورهما في حياة الإنسان الذي يجد ديمومته وديمومة
شعبه وأمته في لغته التي عليها تتأسس هويته، وتتحدد معالم انتمائه. والله ولي
التوفيق للجميع. ...................................
وأخيراً أتقدم بكل آيات
الشكر والتقدير والامتنان لكلٌ من :
- الأستاذ الراقي السفير دكتور : محمد جستى
عميد الأكاديمية الدولية للكتاب والمفكرين المثقفين العرب.
- والأستاذ الراقي الدكتور بوجمعة
وعلي رئيس قسم الدراسات والبحوث تخصص اللغة والمجتمع.
انتهى البحث بفضل الله
تعالى ..
ويحتوي على:
١ - المقدمه التعريفية باللغة والهوية ( اللغة والمجتمع
).
٢ - القسم الأول به جزئان .
٣ - القسم الثاني به ٥ أجزاء .
٤ - القسم الأخير
الخاتمة
وقصيدة من مؤلفي الشخصي ترابطا بموضوع البحث.
- ومراجع البحث .
====================
المراجع المستعان بها والمصادر: - مجلة العربي/ العدد 683
لعام 2015م. - دراسات وأبحاث في التاريخ والتراث واللغات.
https://m.ahewar.org/index.asp?cid=202. - مركز الروابط للبحوث والدراسات
الاستراتيجية. - ندوة اللغة العربية: أفق العالمية بسؤالي التنمية ومجتمع
المعرفة ( مركز ضياء للمؤتمرات والأبحاث ) - إجتهاد شخصي .
=====================
مع تمنياتي للجميع بالتوفيق
الباحثة المصرية
د. حنان أبو زيد