السبت، 29 يونيو 2019

الرسالة الأخيرة....(ج١) ..قصة بقلم/ حنان أبو زيد

أوراق خريفها كانت تتهاوى في ذبول.. والسماء الغائمة تنبئ عن جوٍ ماطرٍ قريب، وفي وقفة الراحل بلا عودة سافرت عيناها في المدى الرحيب .. بعدما اتخذت قراراً لا رجعة فيه .. ضمَّنتهُ رسالتها الأخيرة.
وكان هو يسير في شوارع المدينة هَائِماً على وجْهِهِ ضَائِعاً ، تَائِهاً ، لاَ يَعْرِفُ إِلى أين هو مُتَّجِهٌ ، مُتحيراً، وعينه ترى ذكريات متتابعة ومتتداخلة على البيوت والوجوه.
يتجه إلى منزل، يسير نحو إحدى الشقق
ويقف أمامها وهو يتمتم ويحدث نفسه ويقول:
- سوف أعانقها وأعتذر لها وأعدها ألا نفترق..أنا أعرف جيداً قلبها الطيب الحنون سيسامحني.
يضع أصبعه على جرس الشقة فيصدر رنيناً دون جواب.. فإذا به يتذكر مفتاحاً بجيبه، ثم يفتح به باب الشقة فيدخل
ينادى عليها:
- حبيبتي، ملاكي، ابنة قلبي.
لا تجيب.. 
يبحث عنها فى كل أركان الشقة، هنا وهناك، يشتم رائحة عطرها الفاتن يملأ أرجاء المكان. ولكن.... 
اختفت، كأنها سحابة صافية وتلاشت، ينتابه حزن وغصة، ثم تقع عيناه على ورقة كأنها موضوعة بتعمد وقصد حتى يراها.
يفتح الورقة بشغف ولهفة،
ويقرأ:
- أيا قطعة الفؤاد، إعلم أن هذه هي رسالتي الأخيرة إليك.
إلى من كان في يومٍ ما يعني لي الكثير .. إلى من وهبته كل حبي واهتمامي
إلى من تحكم بعمري الخمس سنوات من الأعوام، 
أيها الغائب عن عيني والحاضر في قلبي، ابن قلبي وصغيري الخائف، والدي القاسي، لحن صبري اللامحدود، ألمي المبتسم،  وحسرة روحي النابضة، دمعة عيني النازفة، وذاكرتي لمدن الحب الضائعة، 
سلام عليك يوم أحببتك،
وفي يوم ادعيت كذباً أنك بعقلي منسياً 
أو ادعائي بنزعك من قلبي بقوة وعتياً! 
سلام عليك يوم فارقتني، و يوم واريتني تحت ثرى الهجر حية!
فشيء ما بداخلي تلاشى، اختفت و تبخرت تلك الجوهرة الباعثة على الطاقة داخل جسدي ، كأن حياتي بأسرها انطفئت.
أيا طيري المهاجر؛ كيف حالك بأرض لا يذكر فيها اسمي؟ أتشرق الشمس على روحك؛ أم أن شمسك مازالت تسكن عيني! هل تتنسم هواء الاشتياق؟ أم أن الاشتياق جاحد لايطأ أرض الغياب! كيف حالي بذلك الركن الصلب من قلبك؟ أمازال نبضك يصل إليه؛ أم بات يخشى المرور  عليه كي لا يوخز ضميرك ويشعل نار مشاعرك! أخبرني مع أي سرب الآن تغرد! وكيف هي الطيور التي لا تعرف أرضاً ولا هوية، أيجيدون النسيان مثلك، أم أن التجاهل هو أفضل مالديهم! أيلتحفون الذكرى مثلي، أم أن مناخهم لا يحتمل هكذا ثقلاً!
اليوم أخبرتني نجوم السماء أنك قد أحببت أخرى، فهل كذبت نجومي! أم أغوتك تلك الأخرى! أم بت أنا قيد الذكرى كما بت قيد هجرك؛ وأخيراً هلا أخبرتني متى العودة فقد اشتكت أغصاني هجرك!
أكتب رسالتي.. لعلها تقع بين يديك من قبيل الصدف.. كما هي في قصص العاشقين قبل مئات السنين..
فتمنيت أن تعود من أجلي.. فلم يعد في المنزل أمان.. وصوتك مازال صداه في أركانه.. فهل تعود من أجلي؟
هل حقاً.. ستُجن.. من أجلي.. ستبحث عني..؟
هل إذا غبت عنك.. ستطرق الأبواب.. علّك تجدني خلف إحداها..
فإن خذلتني لن أخذلك.. بل سأشكو منك..إليك.. لأنني أحمل لك وداً.. حباً.. رقيقاً.. لكنه لا يُخدش.. أو ينكسر..
سأظل على الوفاء ما دمت أنا هنا أو هناك.. 
سأظل على ذكراك سواء بقيت أو رحلت،
فأنت وحدك من سرقني .. وصنع لي عالمي اللامتناهي.. حيث لا يطرق بابي غيرك.. وأنت فقط.. من أحب أن أناديه طفلي المدلل الأناني.
ولكنني ما زلت أبحث عنك، بين أحرفي العصماء، ليس اشتياقاً.. لكنني اعتدت وجودك بين نبضاتي.
ربما اليوم سوف أُنهي حكاية جميلة من عصارات الحنين.. هي حكايتي معك،. وربما حكايتي الجديدة سوف تحمل عنوان ماضٍ مع رسالتي الأخيرة..
ربما ماتت الحروف.. وفقدت شخبطاتي بريقها.. هل هو غيابك.. ظننت أنني أقوى على فراقك.. لأجد نفسي أضعف من أن أودع هوىً ملك قلبي.. كنت على يقين أنني أخوض أمواجاً سوف تغرقني.. ليزداد حنين سببه غيابك.. حاولت أن أخنق قلبي وأئد عشقك.. لم أكن أدري أنني أقهر قلبي بالبعد عنك.. حاولت أن أكتب عن السعادة واللقاء.. فكيف لي أن أكتبها.. وفاقد الشئ لن يعطيه، وأنا فقدت سعادتي ولقائي بك،
والبعد قد قُدِّر لنا.. 
فكم كنت أتمنى لو أنني امرأة قادرة على نسيان جراحها والمضي معك خطوة واحدة، امرأة تستطيع غض الطرف عن أخطائك المتعمدة والخيبات المتكررة دون أن يعلق شيء منها بروحها، لكنني وللأسف امرأة قد تنسى عمراً من الحب وتقبض بقلبها على مشهد الوداع الأخير، تردد كلماته مرة تلو الأخرى وكأنها تحصيهم عددا! 
تطمئن نفسها بأنها مكتملة، محتشدة بنفس المشاعر المسننة الجارحة، تعيد ذات المشهد بعين عقلها ولا تخادع نفسها بأنها ربما كانت المخطئة! أنا امرأة سيئة للغاية تعشق الوهم وتهيم بتصديقه كما كنت تتهمني، لكنني قد أكرهك بقدر ما أعشقك وأمحي تاريخك وتواجدك، امرأة توقد نارها من حطب آلامها وتبني نفسها من حطام انكسارها! امرأة لا تهزمها الحياة ولن يقتلها الحب.. فهي قوية بقدر الخيبات التي حصدتها.
(يتبع)⬅️
#حنان_أبو_زيد

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

أَبنائي الأَعزاءُ شُكرًا.. بقلم الأديبة د. حنان أبو زيد

أَبنائي الأَعزاءُ شُكرًا...  لِـكُلِّ مـا قَـدَّمتُموهُ لَـنا مِن أَلمٍ وَعَناء شُـكرًا لِـجَرحِ قُـلوبِنا بِـجَحدٍ وسخاء وَلِـكُل ما نُلناه...