( ترانيم في محراب الحب )
قراءة نقدية
"في ديوان الشاعرة المصرية حنان أبو زيد "ترانيم القلب
يكتبها الناقد الأدبي: حمـــدي الروبـــي
.............................................
المتابع لإبداع الشاعرة "حنان أبو زيد " المطلع على إسهماتها الأدبية في مجال الشعر خاصة قراءةً أو استماعا يُدركُ بغير جهد شديد أنه أمام عالمٍ متفردٍ من
الشعر ذي خصائص متميزة ترقى به وتجعله أهلا للجذب والإمتاع.
وفي مقدمة هذه الخصائص التدفق الشعوري الملازم لكل حرفها تراه جليا وتشعر به منذ
أول
كلمة تقرأها في أيه قصيدة من قصائدها ، ولا يجد المطلع على إبداع الشاعرة حنان
أبو زيد الشعري صعوبة أو مشقة في سبر غور بعض أسرار العالم الإبداعي
الخاص بها ؛ ذلك أنها تلبس مشاعرها ألفاظا وجملا قريبة المعنى أنيقة الترتيب راقية
الدلالة.
فما إن تبدأ قراءة قصائدها تتسارع نبضاتك وأنت تقرأ ( اغتيال
نبض ) .. وتزداد اقترابا من عالمها الإبداعي كلما قرأت ( لا تقترب ) .. وتحلق مع
أبطال قصص الحب وأنت تترنم بـ ( حلما أراك ) .. وتتألم روحك عند ( احتضار حواء )
.. وتستبشر أملا هي تُوقِّع أمامك ( وثيقة السماء ) .. وتثمل عشقا بـ ( كؤس الأمل
) .. وتترقب معها الغائب ( قبل الأوان ) .. وعند ( أيا حبيبا ) تجيب الجوارح النداء
.. وتنتفض روحك خوفا من (لعنة الذكريات) .. حتى تستقر عند ( نهر الحب والزهور
الحمراء)
والشاعرة حنان أبوزيد لا تكتب
أو تبدع رفاهة أو تقليدا لكنها مبدعة تمتلك قلما متميزا ورؤية شاعرية متفردة ،
ولذلك كثيرا ما تجدها تتحاور مع الأنثى والإنسانة داخلها أو تناجي محبوبها ، أو
تتحدث إلى قلمها ، وتحدث هذه المناجاة الداخلية غالبا في غياب المحبوب أو وقت هجره
وجفوته. تقول الشاعرة في ترنيمة "قلمي لا تعصاني" :
أيا قلمي الحائر الظامئ "
لا تتكبر ولا تعصاني
وأطع أمر قلبي
واكتب حروفي
لأهبها عاشقاً يهواني"
فيا قلمي "
طاوعني ولا تعصاني
وناجيه بحروف عشق أشجاني
فغيابه بالدمع أبكاني
وهذا المحبوب جدير بهذه المناجاة التي جعلت من القلم إنسانا
يسمع ويشعر ويستجيب ؛ فهو
_أي المحبوب_
"كالرحيق يسري
بدمائي
ياقلمي ... أخبره بمعاناتي
فهو كالماء ببحاري ومحيطاتي
والجنون اقترب من عقلي وذاتي
وهجره قطع الحياة عن ورداتي"
وإن كنت أرى أن الشاعرة هنا تناجي _ خلف هذا
القلم_ قلبها العاشق الذي هو منبع إبداعها.
وشاعرتنا عندما تترنم للمحبوب وتناجيه وتناديه
لا تنثر هذا فقط بين السطور بل إنها تفرد قصائد كاملة تناجي بها المحبوب أو تناديه
أو تستعيده بين ذراعيها في ترانيم مرهفة شديدة الشاعرية والرقة ، كما فعلت في
ترنيمة (مولاي العاشق)
"كيف
تقلب زمناً وتاريخاً
وتدفع القلب أن يهواك
أصبحت السلطانة أسيرتك
لو شئتَ تكون أنثاك
مولاي الوردة لا تذكر
كيف توسطت الأشواك
وموج البحر لا يدرك
عناق الصخر فيه هلاك"
وفي قصيدة أخرى تجعل منه (جنينا) في كلمات
رقراقة تذيب القلوب وهي تقول:
"أيا
جنيني ..
يا منية الروح
والناي الحزينِ
سرقتني من ذاتي
وأنت سر تكويني
ومحيط عمري
ونهر حبك يحتويني
أغلق ذراعيك عليَّ
بالشوق والحنينِ"
وعناوين القصائد في هذا الديوان تمثل فصولا
كاملة من المشاعر وقصائد أخرى لم تكتب لكنها تختبئ خلف حروف كل عنوان ، فهذه
الشاعرة تكتب القصيدة مرتين إحداهما ظاهرة في الأبيات والأخرى كامنة بين حروف
العنوان ، ونظرة سريعة على فهرس الديوان تبين لك كم هي رائعة ومبتكرة تسميات
الشاعرة لقصائدها.
وشاعرتنا المبدعة تتخذ من قصائدها وسيلة تأصَّلُ من خلالها
نظريتها في الحب وترسم بحروفها عالما فريدا من العشق يجعلها بحق صاحبة نظرية
رومانسية خاصة تسيطر على كل قصائد الديوان ، ولله درها وهي تترنم متولهةً عاشقةً
وتقول:
"الحب كالوردة
يحتاج دوماً الاعتناء
إن أهملت ذَبُلت
وذَهب عنها الصفاء
وها قد أتى المساء
وأنت بعد لم تأتي باللقاء
وعانقت كأس الجفاء
وباتت أنفاس أنوثتي جوفاء
وتركت سيدة النساء
في صحراء العمر والخلاء"
إن صاحبة
الترانيم مؤمنة بالحب حدَّ التسليم ولا تتخلى عن حبها أبدا ؛ ويبدو هذا جليا فيما
ترسمه من صور مبتكرة وما ترتله من أشعار حتى وإن " انتحر الحب العظيم .. وخرست جميل الآهات". لكن هذا لا يعني بالضرورة أن
تتخلى عن غرور المرأة وكبرياء الأنثى ؛ فكثيرا ما تعلن في شموخ أنها قررت "الرحيل
لزمن هادئ مريح..فيه صدق النقاء بالكون الفسيح"
وشاعرتنا
المتميزة حنان أبوزيد شديدة العشق للمحبوب دائمة الوله به غير أنها لا تتوقف أبدا
عن عتابه وتأنيبه ولها كل العذر لأن المرأة غالبا ما تعشق بصدق وقوة لذا تبذل
قصارى جهدها دفاعا عن عشقها وحفاظا على حبه وحبها..ولنرى كل هذا جليا مشرقا في
قصيدتها الرائعة(احتضار حواء)
"تهجرنى وتقتل بداخلي حواء
فأي الدروب تصلك بحناني
تتوق لأحضان المطر الظماء
تذهب كما تأتي
وتسهر أشواقي
تعاتب فيك نجوم البيداء
ابعد ما شئت
فعزتي أغلى الكبرياء
ألست كنت حبيباً
يجالسني ويرتمي
بين ذراعي بالاحتواء
فأصبحت تجف رحيقاً
ونسيت اني كنت لك الدواء
حتما ستشتاق لنقائي
وتعرف أني أغلى الأشياء
تتركني وحيدة أسامر قمري
وتلومني الدنيا بالضجر والجفاء
تبتعد وتهجر أحضاني
وتمزق جفوني دمعات العزاء
وتتواري عن عيناي
كانت لك بالقريب الشفاء
قد كتب حروف الهجاء
لا عودة ولا استرجاء
ولن أتحسر بالعشق بالعناء
من يبيع ليس له بالقلب شراء"
وهي في كل
حديثها عن الحب تحتفي به بما يجعل له عيدا دائما في قلوب المحبين، ومن أروع ما
يؤكد كلامنا قولها في قصيدة(نهر الحب والزهور الحمراء" :
"لنهر الحب دعاني
حبيبي أمير الضياء
عيدي غير عيد كل الأحباء
ومسائي غير أي مساء
طرزت وجه القمر ولمع بالفضاء
وغزلت لحبيبي من العشق رداء
كان مساؤنا مختلف فجمعنا
كل باقات الزهور الحمراء
وارتشفنا من نهر الحب هناء رواء
وأضأنا شموعاً تحترق بلهيب العشاق"
وتستمر ترسم
مظاهر الاحتفاء حتى تجعلنا نظن أن
"كل العشاق والشعراء
اختطفوا كل حروف الهجاء
فيتدلى طائر العنقاء
ليبارك قلبينا بماء السماء
حتى صار النبض لحنا وعزفا
لبى صراخ الاشتياق بالنداء"
حتى تتركنا
ونحن
"لا ندري هل مسنا سحرُ
أم خفقان ودقات قلبينا سواء
ولا ندري سر تبدل العصور
ولا نفرق بين صيف و شتاء"
وسوف يلاحظ المتابع لإبداع الشاعرة حنان أبو زيد وليس فقط
القارئ لهذا الديوان أن الأناقة عنوان
كبير يجب أن يذكر مع كل قصيدة تترنم بها ( حنان أبو زيد ) .. إنها الأنثى لا تتخلى
عن أناقتها في كل مكونات القصيدة من حروف ومعانٍ وخيال وعاطفة:
"كان عشقنا لا تحسبه
عقارب الساعات
فتوقف الزمن في غفلةٍ
بدقائق معدودات
وانتحر الحب العظيم
وخرست جميل الآهات
وداعاً ياكل أحلامي البريئات"
"قصورك من رمال حارقة
ليس فيها صروح خارقة
لا .. لا تقترب ..
فكل الوديان هاوية
وجبالك من صلصال تالفة"
"عذرا أيها الأمير أو ما يسمونك سلطان
انا امرأة لست كباقي النساء الحسان
ولا أنت شهريار ولا فارس هذا الزمان"
"هل أمحو معك كل أشعاري
أم أعيد بناء الروايات
كي تسكن بين القوافي
وتكتب أنت النهايات
أم أشطب من الكون عالمي
وأعيد تقسيم القارات
وأرصف كل المرافق
وأرسل عمق الجوابات"
والتجربة الشعرية في هذا الديوان تسير في تدفق
وانسيابية وتسلسل مما يمنحها ترابطا شعوريا يريح عين القارئ وقلب المستمع،
وهذا واضح جلي في كل الترانيم ولتأخذ مثلا قصبدة ( لعنة الذكريات ) .. فهذه
الترنيمة تبدأ في المساء باستحضار مرير لذكريات كانت جنة القلب وسعادته ثم صارت
جحيم الروح وشقائها وهاهي الذكريات الملعونة
"مبعثرة
أمامي كل أوراقي ..
أتجاذب مع نفسي أطراف ذكرياتي
وأنزوي أكثر .. فأكثر داخل ذاتي
في كهف صمتي .. بين وجع نبضاتي
حين يمر شريط الذكرياتِ
حاملاً معه كل أنواع قسوة الأهاتِ"
لكن الشاعرة _ وهذا مكون أصيل من مكوناتها كأنثى وإنسانة
ومبدعة_ لا تضعف ولا تفقد الأمل، بل تعيد ترتيب كل شتات يعتري مسيرتها وتقف شامخة
وهي تقول لكل الدنيا:
"أحاول
أن ألملم بعثراتي
وأسيج سوراً من العزلة عالي
أنسجُ نبضاً من شهقاتي
ومن زفيري تخرج اللعناتِ
أطيلُ المكوث داخل قوقعة غلافي"
لكن لعنة الذكريات لا تتوقف عن مطاردتها واللحاق بها
لعلها تصيبها بكبوة تعوق مسيرتها:
"تعاودني
الذكرى و تتسلق أسواري
تقتحم عزلتي وكياني ..
كشبح مفترس يطاردني
والخوف يزرعُ سيفه
في قلبي ويسكنني
حالة يأس وهلع أصابتني"
فتستعصم الشاعرة بالأمل وحبها للحياة وتعلن في إرادة جليةٍ:
"فأهز رأسي
وأتمتم....
لأغلق قوقعتي ...
وأحلم باحدى همساتي ...
إنها بعيدة عني"
ولا يفوتني أن أشير إلى أن العاطفة الدينية مكوِّنٌ آخر
أصيل في إبداع الشاعرة (حنان أبو زيد ) لا يفارقها حتى وهي تترنم عشقا وغراما ..
فهل بعد الذنبُ بالعشق ثوابا ؟
أنت للخطيئة داء سامحتك
وعلى الله إحتسابا
يا روعة العمر وهدية السماء
ما ذنبي آمنت بحرفك
وكفرت بجميع الصفحات
وأمثلة أخرى كثيرة متناثرة في أغلب الترانيم لا تغفلها أعين
القارئ.
وعندما نتحدث عن الظواهر اللغوية
والأسلوبية في شعر حنان أبو زيد نقول إنها وفيرة ومتنوعة جدا وتتميز
بالبساطة والوضوح والأناقة والبعد عن التعقيد والتوحش اللفظي ؛ فهي مبدعة تهتم
بالقارئ وتتمسط بالبساطة والوضوح مع الحفاظ على الرونق ورقي التعبير ومن
الظواهر الشائعة في شعر حنان أبو زيد الاستفهام والتعجب والنداء والمقابلة
والتضاد والنعت والإضافة والنهي والنفي
(أين أنت الآن مني ؟)
(وهل تدري عني ؟)
(أأظل أسأل الحروف
عنك وأجوب الطرقات)!!؟
(هل ما زلت جنيني ؟!
أم روحك فارقتني للممات!
هل مازلت تذكرني..
أم صوتي داخلك تلاشى)
(عقارب الساعات)
(بدقائق معدودات
وداعاً ياكل أحلامي البريئات)
(لا .. لا تقترب)
(فجسور الحلم مغلقة
والأماني والأمال معلقة
عروشي ليست خاوية
صنعت من براكين حامية
دعك من أحلام زائفة
وشعارات كاذبة هاتفة)
(اذهب لعالمك القبيح
لم يثمر غير داءُ قريح
فكفاك سحقاً بعصفور جريح..
وسراب ووعود عصفتها الريح)
(لن أخبرك مكاني
وكيف السبيل لعنواني
أيا أميراً ويامعشوق النساء)
(إن كان عشقي عليك هين
فعشقك دائم بأوصالي
يغتال رحيق زهرتي العذراء)
وقلما تخلو قصيدة من من هذه الظواهر وإن كان الاستفهام
والنداء هما أكثر الأساليب شيوعا في قصائد الديوان مما يعكس في تقديري حيرة ومخاوف
تنتاب الشاعرة غير أنها دائما ما تتغلب عليها وتتجاوزها.
ومن الملاحظ أيضاً أن
أسلوب الشاعرة يتنوع دوما ما بين الخبر والإنشاء غير أنها مولعة بالسجع وأحيانا
تتحول بعض قصائدها إلى شطور مسجوعة سجعا متكلفا فقط لمجرد الحفاظ على القافية.
وأخيراً يطيب لي أن أتناول باختصار (الخيال) في هذه
الترانيم حيث أرى أنه شديد الروعة ، كثير التجديد ، يصل القلوب بسهولة وتدفق
واقتدار. واقرأ معي إن شئت كيف صورت الشاعرة سهم العشق وتأثيره في القلب والروح معاً
:
"لكنَ
سهماً في القلبِ
بالعشقً أصابَ
وسماً بالوريدِ
من نصلهِ صب لُعَابا
خِنجركَ يتسامىَ
تمايلاً وعذابَ
وعطرُ زهرِ الصبارَ
في الصحراء شابَ
فأصبحت في هواك صريعةً
محمومةً أعاني ألم الصبابه
أعاتب قلباً صار ترابا
ارتديت من العذاب ثيابا
ومقل عيني زهاها سوادً
لطخها السحابا"
أو انظر كيف جمعت بين شَعر الأنثى وكحل عينيها والليل في تصوير عجيب
ورائع فقالت:
(لن أرخي لك شعري
صبغته بكحل الليلِ
وارتديت من الحزن حجابا)
غير أنها أحيانا ترسم لنا خيالا تقليديا غير مبتكر وإن كان يجيء
دوما في حلةٍ جميلة المظهر. ومن ذلك قولها:
"رجل مثعلب بصورة إنسان
وعزفت زيفا على أوتار الكمان
وظننت أني مازلت أتعبد بمحرابك
وأصلي لعشقك كالرهبان"
وفي ختام
هذه الإطلالة النقدية على الديوان الأول للشاعرة حنان أبو زيد أقول إن هذا الديوان
في تقديري يجسد إبداعاً تنحني لرقيه أقلام المبدعين وهو بالفعل تراتيل عشق ..
وترانيم حب .. تشدو بها شاعرة الروائع الأستاذة حنان أبوزيد ، وقصائده زهرات يانعة
أبدعتها شاعرة فنانة ؛ ففي كل قصيدة تجد نفسك أمام لوحة موسيقية شديدة
الإشعاع والبوح رسمتها مبدعتها لتفتح أمام القارئ أبوابَ أمل وحب ووصال لا تنتهي ،
ومع كل ترنيمة من ترانيم الديوان تطلق الشاعرة شعاع عشق وسهم حبٍ جديد يخطف القلوب
والأبصار .. ويشعل الأحاسيس والأفكار ، وكلمات الديوان على بساطتها وقرب مأخذها
تروي بمعانيها ظمأ الروح للوصال.
وأخيرا أقول لها يا سيدتي ما أروع بوحك
.. ونبض حرفك .. وسحر تصويرك .. يا سيدتي .. من القلب والروح تقدير ومحبة
لقلمك الراقي.
الناقد الأدبي: حمدي الروبي