الخميس، 2 أغسطس 2018

رحلة في أعماق الذاكرة ... تطوف بها في حنايا الوجدان .. الأديبة حنان أبوزيد


في أعماق ذاكرة الإنسان
ملامح محفورة غير قابلة للنسيان
لا تخضع لقوانين البوح بالأحزان
ولكنها كوحشية القاتل للسجان
تصل بنا لغرفة الإعدام والفناء بالحرمان
إن الذاكرة أكثر عمقاً من الأحلام,
إنها تختزن روعة الحياة وتقلب الأيام،
وتُعيد أشخاصاً رحلوا وتركوا لنا الألام.
لا ‏أريد أن أغرق في أوهامي،ولكنني أغرقت في أحلامي، أغرقت في نسياني، وزفرات ذكرياتي، لازالت تنبش ماضيَّ وحاضري، والأتي.
ولكنني أسرق مخاض القلم وأكتب من قبل خطوط كفوف عمياء. وفي سُكنى الحروف أتدفأ بأحداث الحُلم وأتلحف بالذكريات.
ولكنني في غفلة من الزمن، إمتطيت جياد الحُلم، ليأخذني بعيداً في رحلة عبر المسافات، لأطير بلا أجنحة، أبحث عن هواء يشبهني، مجنون مثلي، لم يستنشقه أحد قبلي، هواءاً لا يجرح بأنفاسه وجه أضلعي، أو تتمايل آثاره على رئتاي ..
حبست لحظات استنشاق الشهيق؛ والزفير في خزائن الصدر؛ وأنا أتأمل عينيه هناك على ضفاف النيل.. مكان شهد فيه عشقنا، وقبل المغيب بشهقتين رسمته لوحة حب على ورقة عمري التي تحمل عبق ذكرياتي.. فقد أحكم الليل وثاقه علي جيدي، وأمتلأ القلب به؛ وازددت اختناقاً وشوقاً، وليظل خالداً بروحي تحاشيت أزقة السراب؛ وملائكة الشغف ترعى بتفاصيلي، حملته بعيداً إلى أروقة ذاتي، لكن تلك الحواجز الشائكة منعتني من دخول أو مرور عالمه، فطرت به إلى هناك، الى عالم يفوح منه عبير الحب، عند بوابة الحُلم، هناك عمدته بمجرى مياه عيني، لكن فجأة وبلا مقدمات، تلاشت رائحة العشق؛ وان كان شريان القلب يرقص من الإشتياق. وحتى يظل في قلبي حُلماً عاث في منامي أرقاً، عبرت فيه جسور المستحيل، وهواي يستنطق في عينيه عناقاً على جادة قصائدي، فإنتفض النهر من تحتي، إختل توازني، سقطت تلك اللوحة السرمدية.. وخاب ظني حين إرتديت الأوهام عشقاً له، وكم تمنيت قبل أن يلفظني النهر، أن تكتظ به سطوري، سلال أحرفي، وثمار عشقي أنضجها قلبي وربيع عمري.
وهنا لك أن تتخيل أن تكتب للآخر، وقد يفوح من تلك الكتابة رائحة الملاذ الذي يبرر طلاسمك وهمجية مشاعرك ، لأنه قد لا تحتمل وقع أن تكتب لذاتك شيئ عنه ، وقد لا تبلغ العافية حينما تنعته بأوصاف هو أدرى بها ، من المحتمل أنه تفكير بصوت عالي ، تأنيب بصوت عالي ، ندم بصوت عالي ، صراخ بأي شكل من أشكال التفريغ . وتشعر بعد مرات أنك قد تكون وحدك بهذا الكون، لكنك تريد أن تجري على انسان من الذاكرة ربما ، أو حاضر ربما، لكنه فى مهب الريح. قد تحملك الفرص ان تقتحمه للمرة الأخيرة ولكن بطعم مختلف .
وتخشى أن تكون قد أصبحت فى ذاكرته طعم أخر أكثر اختلافاً، هنا يأخذك الموج حيث لا تريد ان تبقى ..
نظن حينها أننا نحتفظ بالماضي في قبضة أيدينا ونكون أكثر طموحاً لدنيا أخرى، بظروف أخرى، بألوان ومزاجيات أخرى، يتداخلك النزاع فى كيف تبني حُلم جديد بمواصفات عصر قديم وأحاسيس قديمة، ولكن مع الأسف أنهما لا يلتقيان.
كثيراً ما يصيبنا الغرور بأن نكون نحن دائماً بأوصافنا وعلاتنا داخل من نريد أن نكون فى دواخلهم، ولكن تمر الأيام ليثبت الزمن اندثارنا، وخروجنا من دائرة المعقول لللا معقول وينتهي بنا خريف الأمنيات. وتتوجه أصابع الندم حول ضياع الحُلم الذى كسرته أيدينا ونتحسر لسذاجتنا.
وهناك أيضا مفارقة أن يعاد نفس الحُلم بنفس مواصفاته فى حاضر أنت فيه أكثر حوجة لماضي أضاعته منك الأيام.
هل سيشوبه نفس مذاق الحُلم الذى تود صناعته؟ هل يفرغك من محتواك أم تفرغه من جماليته؟ هل يثير فيك تلك البراءة الأولى وعيناك تلمع للهفة تمنيتها العمر كله؟.
عندها سيصبح المستقبل طلاسم خوف وترقب لحُلم تخشى أن يعود.
تحلم وأنت فى زمن اللاحلم ، تريد أن تقترب وتخشى، تريد أن تبتعد، ولكن صوت الألم يمنعك، حينها تريد أن تفسر وتشخص أوجاعك، وتشعر بنتائج صحيحة من أجل الحقيقة، وغير مُرضية لدواخلك الملهوفة لغير الحقيقة.
داخلك صراع و سؤال حول الآخر وللآخر ومن الآخر وفى دنيا الآخر ، وحولك ظروف وذكريات مع الآخر، وللآخر، وضد الآخر .
رغم احساسك بالقرب الداخلي لدواخلك، برغم خوفك للبعد الخارج وبعض الداخل. تخشى أن تكون حالة شفقة على نفسك أو على ذاتك التي أضاعت حُلم أهداه لك الآخر يوماً. حينها لا يقوى الجسد ولا القلب على خوض نضالات نسبة النصر فيها أقل من 50 بالمئة، لم يعد للكلمات مرسى من أجل الحزن والتنقيب والمحاولة والتجمد مرة أخرى، لا شعارات تنفخ الصور فى الرغبات المتأججة فى الدواخل، لكنه الخوف دائماً من أن تخطو الخطوة الأولى والاخيرة، ربما فوبيا من الخطوات الحاسمة التي يدخل فيها العمر بين التفاصيل تلك والمباشرة.
ونعاني حينها من ذاكرةٍ لا تكُّف عن العبثِ بتفاصيل الماضي. و يَبقى شئُ من عَبق الماضي عالقٌ بنا رُغم الزَمن، شئ تَعجز يَد النسيان أن تصل إليه.
وترهقنا الذاكرة أحيانا بما فيها من صور ومواقف تتزاحم داخلها الأحاسيس المختلطة بلغة التمرد. نشعر معها أن المسافة الممتدة بين ما هو حقيقي وما هو حُلم منطقة محظورة يصعب اختراقها أو حتى استكشاف طرقها الملتوية الوعرة.
لذا نقرر أن نختزل كل المفردات المحفزة على خلق نقاط التقاء يتم فيها غربلة كل ما من شأنه أن يمنحنا صيغ الانعتاق من أسر الوهم وعبثية تلك التفاصيل المستقطعة من وهج الذاكرة المتيقظة، لنتمكن ربما من ترك شئ من تساؤلاتنا الحائرة على حافة الأيام، ونمضي متخففين من مخاوفنا، محاولين عبور أكثر مدارات الفكر توقداً ودهشة.
قد يكون ذلك من أجل التمسك بحُلم ما، لا يزال محتفظاً بألقه هناك في الذاكرة؛ حيث تنفرد الذاكرة بخاصية الفصل بين الحكايات المؤلمة، وتلك التي كانت يوماً ما سبباً في إسعاد قلوبنا وإشعارها بقدسية اللحظة وقدرتها على تصدير البهجة إلى أرواح أضناها الخذلان، باتت حبيسة أوهام تمتلك سلطة التجذر والبقاء طويلاً في تشعبات الذاكرة، لكن البعض ممن لديهم مقدرة على سحق تلك الفوضى ونقدها يعطون لأنفسهم الحق في التجرؤ عليها ومحاكمتها رغبة منهم في ملء فراغات الأسئلة التي أرقتهم طويلاً، كما أنهم أيضا يحاولون محاربة الوهم القابع في دواخلهم، وإخلاء تلك المساحات الممتدة لتستطيع التعافي من أثقالها الناتجة غالباً عن إخفاقات متكررة ربما.
فنحن حينما نكون في مواجهة سطوة التأويلات القديمة، نفهم أن من الضروري استنطاق الذاكرة لنعاود فتح مناطق الاحتجاج والاستعداد جيداً لكل ما هو آتٍ من قلب المجهول.
فقط على أبواب تلك الامتدادات المسكونة بالأحلام المؤجلة تحتدم الأفكار، وتحتفي معلنة بدء مرحلة جديدة أشبه ما تكون بانسلال اللحظة المنتظرة من رحم العتمة.
قلقنا من أن تسير الحياة بالاتجاه المعاكس لرؤيتنا، يدفعنا لتجاوز كل البدايات المسبقة واختيار نقطة انطلاق رسمُنا معالمها باحتكامنا لزخم الأسئلة القاسية التي تؤيد في الغالب حرية الفكر وإضاءة زوايا الروح بتأملات منصفة لأبجدية الحلم بعيداً عن الرؤى الجاهزة والمعلبة.
مُصرين بذلك على إدانة الذاكرة التي تتلخص مهمتها في الاحتفاظ فقط، واعتقال الملفات لديها حتى تلك التي اعتقدنا أننا تخلصنا منها وطوينا صفحاتها. فهي قد تعيدها إلينا في غير موعدها أو حتى بدون أن تستأذننا تعاود نشرها غير مكترثة بما قد يعترينا من انتكاسات. ميزتها أنها لا تتردد أبداً في البوح متى شاءت، ولا تخاف أن توجعنا ونحن في قمة سعادتنا. وما بين توجسات الذاكرة وبين ذلك الحُلم الذي نظل نركض خلفه مسافة شاسعة من الكلمات، باعتبار أن الحُلم وحده القادر على استدعاء الحياة وتمكينها من اختراع نصوص تختص بها دون غيرها. ومعه بالذات قد نضبط متلبسين بالفرح متلهفين للاحتماء بحيثياته الباعثة على ارتياد أحلام لم نلغها، بل غيرنا موقعها لتكون أجدر بمنحها الشرعية المطلقة، وإبقائها ضمن جدول أولوياتنا. فنتبع الحُلم ونلمسه، ونحارب من أجل أن تظل محتفظا به، لأنه هو وحده القادر على حماية قلوبنا من الهرم، وأرواحنا من الغياب، وجباهاتنا من الخمول والتخاذل.
وتجد ذاتك تحدث ذاتك في همس مغلق:
فيا أنت بإمكانك أن تثور على الألم الذي هو في الحقيقة دافع قوي تستطيع من خلاله ارتكاب فعل التفكير طوال الوقت، لكونك تؤمن بأن الحياة حاضنة لأحلامك، كما أن الذاكرة تمتلئ بتجارب ستبقى ذكرى تختبئ في أدراج النسيان تباغتك بحضورها كلما عصف بك الحنين، وشعرت بالامتنان لكل الأشياء الصغيرة العابرة التي قوتك لدرجة أنها جعلتك تجيد فن التجاهل والسير نحو الأمام.
ولكن أحلامنا هي بعض حرماننا وذاكرتنا جميع ازاماتنا .. بعضهم متصببين بعرق الذكريات وآخرون لاهثون لتغيير مسار ذاكراتهم بحُلم أنظف وأنقى ..
ولكني الآن.. سأخرج من ذاكرتي لألمس خيط الحلم إليه وأغزل من المسافات حبل نور يوصلني إليه التي أخذتها الفصول وجعلتني ذابلة الوجوم.
فما عادت الأيام عطر الربيع على الأرض وأنا أمشي وحيدة من دون ظله.
فلم يبق بين أضلاعي إلا الجمر يحرقني قبل أن تصل إليه.. وقد طال انتظاري إليه وحشدت روحي في الذاكرة حتى صارت كالأحلام أعيش بها كأنها أرغفة تنفسي حين تسقطني الأقدار خارج خطوط الهواء.
وسوف أدون خفق لهيب التحقق خلفه عطف الحالمين وجواب الحنين، فيغريني الآن شعور أنثى يسيل منها النبض ويقين بالحب، والجنون المنقوش بالضلوع، وقتال يتصارع على تحدي الهجر، بل زرع ينتظر الحصاد وللأشواق التي ترعرعت في الصدور.. للحرص على تدفق الدم بين الأنفاس، للادمان الذي نرغب به، كي لا يكون هناك هجراً أخر، يرسمنا الرذاذ لينبت العطف، ثمة فيض يعزف على قلوبنا الدفء، وحرمان أصّر على هذيانه، يرسم خلفه لجوء يلون التاريخ برداءات نرجسية ومدارات من فجرٍ لأمنيات تسقط فيها الروح ولم تجد من العمر الباقي، وهيهات من رقعة الوحل وجذور الفضاء حين تهزمنا..
كم أردت أن أعرف كمّ عليّ إنتظاره حتى صار انتظاري تعبداً في طريق الحنين إليه لأهرب من المكان إلى ذاكرة رسائلنا تلك،
فأدمنت الحلم إليه وبه، وقد جفت الأعوام الماضية على أبواب مرور الزمن وعلى زوايا ذاكرة الحياة في روحي ...
وكم أردت أن أعرف .. وأن أعرف.. هل أن الحُلم لا ينتهي فصوله في كل الأزمان حتى لو طلع بياض القمر من بين الأجفان.
وكم يدوم غياب حضوري بين يديه قبل أن أدمن المسافة إليه...
هلم قبل أن يأتي الليل و يغرقني في غيبوبة الذاكرة، وعند الصباح أجد ضوء روحي على جبهته، فأجمع الليل مع النهار لأرى نافذة أنفاسي تطل عليه وهي تمر على النهار كشموخ معالم تفاصيلي في عالمه.. قد انتظره وسوف أظل أنتظره حتى أُذيب البعد عن حدائق روحه.
لم أعد أعرف رحيق الوجود إلا من رحيق عشقه، التي صادقت اللحظات حين تمر على أبواب انتظاري إليه، لأرسم أبعاد أنفاسي على خُطى الصباحات المبشرة بقدومه، فبعده يشعرني كأني برحلة إلى سماء مجهولة النجوم، فتذبل حتى السماء في عيني، وحين أستيقظ من وجدي، أجد أن كل الأشياء تعاند مسيرتي إليه، هو قبلة عمري الباقي في الحنين، أناديه فلم أعد أتحمل الغرق في البعد وأوقاتي صارت خطوط القدر على كفيه. سوف أخزن أيامي الباقيات إليه وأرتب ميعادي مع القمر الذي فر من السماء واستدار كوجهه لينير أيامي معه، فلم أعد أنفلت من ضجري وحزني ووحدتي إلا بحضوره.. أردته بجانبي لنرحل إلى مواسم لا تغتال البحر وحيداً دون موجه.
فليدعنا القدر نكتب شهادة ميلاد أرواحنا،
من ذاكرة الحلم...
كي نحاول ونحاول أن لا يأتي يوم نفترق فيه عن من نحب..
وأن وحدها الأيام تحت جدائلها الرمادية هي التي تعرف الجواب، وحتى و إن كان أملاً باهتاً قد لا تتحقق معه الصدفة ..
ثم تنتهي ذاكرة الحلم بألام متناثرة تعطي للمكان رائحة أخرى .. وطعماً آخر.
#حنان_أبوزيد

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

أَبنائي الأَعزاءُ شُكرًا.. بقلم الأديبة د. حنان أبو زيد

أَبنائي الأَعزاءُ شُكرًا...  لِـكُلِّ مـا قَـدَّمتُموهُ لَـنا مِن أَلمٍ وَعَناء شُـكرًا لِـجَرحِ قُـلوبِنا بِـجَحدٍ وسخاء وَلِـكُل ما نُلناه...